سلسلة مقالات في الوباء ، وكان كتابة هذه المقالات (أيام كورونا)
مسائل مهمة تتعلق بأداء الصلوات المفروضات في زمان الوباء
مسألة: العذر عن شهود الجماعة بالمرض، وبخوف حُدُوثه.
في الروض مع الحاشية (2/357): ويُعذَر بترك جمعة وجماعة: مريضٌ، وكذا خائف حدوث مرض، ويُعذر ممنوعٌ من فعلها، كالمحبوس، فإنَّ الله لا يكلِّف نفسًا إلا وُسْعها.
وقال في المقنع والإنصاف (4/464): ويُعْذرُ في تركِ الجُمُعَةِ والجَماعَةِ: المَريضُ، بلا نِزاعٍ، ويُعْذَرُ أَيضًا في ترْكِهما: لخَوْفِ حُدوثِ المرَضِ.
مسألة: المعذور في زمان الوباء هل يصليها في بيته جماعة ؟
وحيثُ عُذر المكلَّف عن جماعة المسجد أو تعذَّر إقامتُها في المساجد : فإنه يُشرع أنْ يصلِّيها جماعة في بيته.
بل ويجب عليه أن يصلِّيَها في جماعة إن وُجدت كما لو عُذر اثنان فأكثر، أو تعذَّرت الجماعة في المسجد، كما هو الحال في زمان الوباء المنتشر وقتنا هذا، فيصلِّيها الرجلُ مع ابنه وأبيه وأخيه ونحوهم من أهل بيته.
وكثير من الناس يظن أنه إذا تعذَّرت الجماعة في المسجد صلاها كلُّ واحد منفردًا!! وهذا خطأ، بل الواجب أن يصلُّوها جماعة، إلا إذا كان وحده في سكنه، أو معه مَن لا تجب عليه أصلًا كالنساء والصبيان. قال في الروض مع الحاشية (2/256): (تلزم الجماعة الرجال) الأحرار القادرين ولو سفرًا، في شدَّة خوف.
وهذا مذهب الحنابلة، بل عندهم أنَّ الجماعة واجبة، وكونها في المسجد سُنَّة مؤكدة، وفي المذهب غير هذا القول، ولكن لِتَعلم أنَّ القول بوجوب الجماعة ليس مقصورًا على جماعة المسجد فقط.
فتجب الجماعة على المسافرين مع التمكُّن. وكذا تجب الجماعة في حال الخوف وقد أفتى بذلك العلامة ابن باز. كما في فتاوى نور على الدرب (11/124).
ودليله قولُه تعالى: +وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ_ [النساء: 102].
قال العلامة ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: $هذه الآية تدل على أنَّ صلاة الجماعة فرض عَين من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أولى وأحرى.
والثانـي: أنَّ المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرًا من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكُّد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها.
وفي الصحيحين عَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ، قَالَ: أَتَى رَجُلاَنِ النَّبِيَّ ج يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ج: «إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا، فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا». بوب عليه البخاري : (باب الأذان للمسافرين)، و (بابٌ: اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ).
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ». وفي المسند (11298): «إذا اجتمع ثلاثة فليؤمهم أحدهم#. وللبيهقي إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمهم أحدهم#. وقوله: $ثلاثة#: ليس له مفهوم خطاب؛ لأنه إذا كانا اثنين أَمَّهما أحدهما، كما في حديث مالك بن الحويرث $وليؤمّكما أكبركما.
وأمَّا حديث: (ألَا رجل يتصدَّق على هذا) فسمّاه صدقة لأنه سيُصلِّي معه نافلة، إذ المتصدِّق قد صلى جماعةً مع النبي صلى الله عليه وسلم وبإمعان النظر فهو من أدلتنا. ولا ريب أنَّ الصَّلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد كما قاله ابن حجر في الفتح. وفي المسجد أولى إذ الأصح جواز إعادتها فيه.
وكان النبيُّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه يصلُّون في السَّفر جماعةً، ويصلي في الخوف وحالة الحرْب جماعة، وهذا متواتر.
فإن قيل: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يؤم الناس، وهو مريض ولم ينقل أنه صلى جماعةً بأهل بيته.
قلنا: نعم لا نعلم أن ذلك نُقل. ولكن كان المرض قد اشتد به جدًّا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .
وأيضًا الفرق واضح هنا، وذلك أنَّ الجماعة قائمة في المسجد، والبيت الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم ملاصق للمسجد، ولم يكن لأحد ممن تجب عليه أن يتخلَّف عنها بحضرةِ النبي صلى الله عليه وسلم، كيف وهو قد همَّ بتحريق بيت من لا يشهدها بدُون عذر. لاسيما والنبي صلى الله عليه وسلم عنده مَن يمرِّضه. وقد أسلَفْنا أنَّ الوجوب متعلِّق بالرجال.
فمَن ليس معه إلا النساء أو هنّ والصبيان فلا يتعلَّق به الوجوب لأنه لا يوجد معه مَن هُو من أهل الوجوب. وإن كان الأفضل أن يصلي مع بعضهم جماعة، والله أعلم.
مسألة: أقل ما تحصل به الجماعة.
وتحصل الجماعة باثنين. قال الوزير ابن هبيرة وغيرُه: أجمعوا على أنَّ أقل الجمع الذي تنعقد به صلاة الجماعة في الفرض غير الجمعة: اثنان، إمام ومأموم قائم عن يمينه. وحكاه البغويُّ إجماع المسلمين. نقله ابن قاسم في حاشية الروض المربع (2/261). وقال النووي في شرح مسلم: الجماعة تصح بإمام ومأموم وهو إجماع المسلمين.
مسألة: بمن تحصل الجماعة؟
وتحصل بكبير بالغ، وبصبي، وبامرأةٍ.
قال ابنُ رجب رحمه الله في فتح الباري (6/39): $ولا نعلم خلافاً أن الجماعة تنعقد باثنين إذا كانا من أهل التكليف، ولو كَانَ المأموم امرأةً. فإن كَانَ المأموم صبيًّا، فهل تنعقد بِهِ الجماعة؟ فِيهِ روايتان عَن أحمد فِي الصلاة المكتوبة، فأمَّا النافلة فتنعقدُ كما صلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالليل بابن عَبَّاس وحده. وأكثر العلماء: عَلَى أنه لا فرق بَيْن الفرض والنفل فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة والشافعي.
مسألة: إذا كان في سكنه وحده فهل يطلب له من يصلي معه؟
فإن قيل: إذا كان وحده في سكنه، فهل يطلب له من يصلي معه؟ . قلنا: يحتمل مشروعية ذلك إذا وجد بدون مشقة، والله أعلم. ولكن في زماننا هذا حيث ينتشر وباء كورونا فإنَّ الأمر العام مِن ولي الأمر يمنع التجمُّعات مطلقًا. وأيضًا : الابتعاد عن الاختلاط بالناس من أسباب دفع العدوى، وهو مطلبٌ شرعي سبقَ الكلام عليه في مقال مضى.
فليصلِّ منفردًا وله أجر الجماعة إن شاء الله إذا كان من أهلها والمحافظين عليها حال السلامة.
مسألة: المؤذن في المسجد في زمننا هذا.
والمؤذنون في زماننا هذا -حيث مُنعَ الاجتماع في المساجد دفعًا لانتشار الوباء، وأُمر برفع الأذان -: إذا أذَّن وكان معه مَن يُصلِّي معه في البيت فالواجب عليه أنْ يرجع إلى بيته أو سكَنِه ليحصِّل الجماعة.
قال ابنُ قاسم في حاشية الروض (2/263): وإن كان ذهابُه إلى المسجد يؤدِّي إلى فعلها فذًّا، وفي البيت يؤدِّي إلى فِعْلها جماعة، تعيَّن فعلها في بيته، تحصيلا للواجب.
وإن لم يكُن معه، وكان سكنه في المسجد كما هو الحال في كثير من القرى والأمصار، صلَّى فيه. ولا يكلّف الله نفسًا إلا وُسعها. وإن كان السَّاكن أكثر من واحد صلَّوا جماعةً.
مسألة: المنفرد المعذُور الذي كان يواظب على الجماعة، له أجر الجماعة إن شاء الله.
إذا صلَّى المسلم وحدَه للعذر، وكان ممن يواظب على الجماعة حال الصحَّة والسلامة، وهمَّتهُ فيها، ونيته أن لو قدر عليها لأداها مع الجماعة: له أجر الجماعة إذا فاتته أو تركها للعذر. ويدل له حديث أبي موسى في البخاري، وحديث عبدالله بن عمرو في المسند، ويدلُّ له جملةٌ من الأدلة ، وهو أصل عظيم، قد شرحته في كتابي: الدرر البهية، والبحوث النافعة. وانظر: حاشية الروض (2/260). وطول الكلامَ ابنُ مفلح على هذا الأصل في الفروع.
مسألة : صاحب البيت أحق بالإمامة.
إذا زارَ أخٌ أخاه أو جاره فصلَّيا ؛ فصاحب البيت أحقّ بالإمامة وإن كان أقل حفظا .
قال ابن قدامة في المغني: الجماعة إذا أقيمت في بيت، فصاحبه أولى بالإمامة من غيره، وإن كان فيه من هو أقرأ منه وأفقه، إذا كان ممن يمكنه إمامتهم، وتصح صلاتهم وراءه، فعل ذلك ابن مسعود، وأبو ذر، وحذيفة، وقد ذكرنا حديثهم، وبه قال عطاء، والشافعي. ولا نعلم فيه خلافًا، والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا يؤمن الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه». رواه مسلم وغيره. وروى مالك بن الحويرث، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من زار قومًا فلا يؤمّهم، وليؤُمّهم رجلٌ منهم» . رواه أبو داود. [صحيح سنن أبي داود (3/ 148/ رقم 609 ) ط غراس]
ثم قال ابن قدامة: وإذا أذن المستحق من هؤلاء لرجل في الإمامة، جاز وصار بمنزلة مَن أذن في استحقاق التقدم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إلا بإذنه.
ولأن الإمامة حق له فله نقلها إلى من شاء.
مسألة: هل يشرع له أن يؤذن في البيت؟
إذا سمع الأذان في المدينة أو القرية، فيُشرع أن يؤذن ويقيم، لحديث مالك بن الحويرث السابق وفيه: فليؤذن لكما أحدكما
وليس بأذان إعلام بدخول الوقت، ولكنه ذكر مشروع للصلاة، ولا يجب، لأنَّ وجوب الأذان على الكفاية، كما ذكرهُ ابنُ قدامة في المغني، وقد ثبت عن أنس أنه أذَّن وأقام. وعن ابن مسعود : أنه لم يأمر بأذان ولا إقامة كما في المصنف لابن أبي شيبة.
قال الإمام ابنُ المنذر: أحبّ إليّ أن يؤذّن ويقيم إذا صلّى وحده، ويجزيه إن أقام، وإن لم يؤذّن، ولو صلّى بغير أذان ولا إقامة لم يجب عليه إعادة، وإنما أحببت الأذان والإقامة للمصلّي وحده؛ لما أخرجه البخاريّ في صحيحه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعة الأنصاريّ، ثم المازنيّ، عن أبيه، أنه أخبره أن أبا سعيد الخدريّ قال له: إني أراك تُحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يَسْمَع مَدَى صوت المؤذِّن جنّ، ولا إنسٌ، ولا شيءٌ إلا شَهِد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد دلّ الحديث: على أن الأذان ليس لاجتماع الناس فقط، بل لفضيلة الأذان أيضًا، وقد أمر ج مالك بن الحويرث وابن عمّه رضي الله عنهما بالأذان والإقامة. انتهى
مسألة : جماعة العُمـال الصّحيين؟
العامل الصِّحّي، ومَن يمرِّض مريضًا ويقوم عليه ويعتني به، فلا تلزمه جماعةٌ، فقد أخرج البخاري (3990) عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا ذُكِرَ لَهُ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ - وَكَانَ بَدْرِيًّا - مَرِضَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ تَعَالَى النَّهَارُ، وَاقْتَرَبَتِ الجُمُعَةُ، وَتَرَكَ الجُمُعَةَ.
وقد ذكر ابنُ الملقن في التوضيح (21/70) العذْرَ بذلك، وحكاه عن ابن التين.
وقال ابنُ هبيرة في الإفصاح (4/ 225): في هذا الحديث ما يدل على أن من له نسيب مريض فإنه يجوز له ترك الجمعة اشتغالا بالقيام على مريضه.
نصيحة: وعلى المسلم أن يحافظ على الرواتب والنوافل، وأن يكثر من الذكر والاستغفار، وأن يحرص على الأسباب التي يحصل بها الخشوع في صلاته، فيتجهّز قبل الصلاة ويصلي قبلها راتبة أو نافلة، ويستحسن ان يكون له ورد من القرآن حتى يقبل عليها بقلبه، ولا يقوم إليها منشغلا قلبه، متلقًا بجوال ونحوه!!!.
كتبهُ
أبو محمد عبد الله بن لمح الخولانـي - بمكة المكرمة